ماذا فعل بي جورج قرداحي؟            من هي سيمون دي بوفوار؟؟؟؟            إمتنان قصيدة للشاعرة العراقية فيء ناصر             حياة محمد أركون بقلم إبنته سيلفي             مقولة اليوم لسيمون دي بوفوار : المرأة لا تولد إمرأة و إنّما تصبح كذلك       يمكننا شحن اللوحات أيضا إليكم : آخر لوحة وضعت على الموقع لوحة الرسامة اللبنانية سليمى زود             يقدم الموقع خدمات إعلامية منوعة : 0096171594738            نعتذر لبعض مراسلينا عن عدم نشر موادهم سريعا لكثرة المواد التي تصلنا، قريبا ستجد كل النصوص مكانا لها ..دمتم       نبحث عن مخرج و كاميرامان و مختص في المونتاج لإنجاز تحقيق تلفزيوني             فرجينيا وولف ترحب بكم...تغطية فيء ناصر من لندن             boutique famoh : أجمل اللوحات لرسامين من الجزائر و كل العالم             لوحات لتشكيليين جزائريين             المثقف العربي يعتبر الكاتبة الأنثى مادة دسمة للتحرش...موضوع يجب أن نتحدث فيه            famoh : men and women without Borders       famoh : femmes et hommes, sans frontieres       ***أطفئ سيجارتك و أنت تتجول في هذا الموقع            دليل فامو دليل المثقف للأماكن التي تناسب ميوله...مكتبات، ، قهاوي، مطاعم، مسارح...إلخ...إلخ           
سرديات عودة
جزء من رواية "حياة باسلة" (الخميس 11 ت1 2012)


1

الغواية

في ممر طويل طرزته اعشاب ميتة وسوّرته من الجانبين شجيرات آس اصفرت اوراقها من العطش ، كنت اتجول قانطا في نزهة بائسة مع صديقي الرسام الذي توقف فجأة عن الحركة متبسما بدهشة بعد ان لمح  شخصا لا اعرفه كان يجلس على مصطبة في حديقة جرداء تطل على نهر دجلة بمائه الشحيح ، ظل صديقي يتطلع بحرص وإعجاب الى ذلك الشخص الذي لم ينتبه لنا ثم همس :
- انظر لهذا الوشق البري ..
تأملت ذلك الكائن الحزين بملابسه البالية وصلعته التي كانت بلون التراب لكثرة ما تعرضت الى لفح اشعة الشمس وقد استغرق في قراءة كتاب صغير بين يديه المتغضنتين ، لم يطرق سمعي هذا الإسم من قبل ولذا دعاني فضولي لإستفهام صديقي الرسام حتى يرفدني بمعلومات اخرى عن حياة ذلك الكائن الذي يشبه الوشق البري الى حد بعيد ، اذكر ان ابتسامة صديقي الرسام استهجنت جهلي وعدم معرفتي بهذا الكائن الغريب بل ايقن في خلده ان صاحبه الغر ما زال الدرب طويلا امامه حتى يكتشف اسرار الحياة الأدبية بجنونها وتناقضاتها وعبثها وتمردها، بعد شهور شاءت المصادفة ان ارى ذلك الوشق البري في حانة الغابات المطلة على شارع ابي نؤاس ، كانت المائدة طويلة عريضة حين شرفنا ذلك الوشق متطوحا وانضم الى مائدتنا التي جلس حولها ثلة من الأدباء كان بينهم صديقي المعتوق ، بعد دقائق شب خلاف بين الوشق والمعتوق حول افكار بوذا وخلال حمى السجال المتبادل بينهما اقترب من المائدة شخص بدين كأنه بقرة ويمتلك عجيزة هائلة بيده كأس مترعة سرعان ما اهداها الى الوشق الذي كرعها دفعة واحدة ثم قال لصاحب العجيزة مشاكسا:
- مادمت بهذه البدانة لن تصبح شاعرا ..
اجابه السمين بعينين ضاحكتين :
- لكن الشاعر اراغون كان بدينا ايضا ..
شعر الوشق البري بالحرج لكنه تدارك الموقف الذي وضع فيه وعلق بسرعة :
- اراغون سمنته الفرنسية شاعرية ، بينما ترهل جسدك لا يصلح الا في حقل للثيران .
 وتعالت الضحكات من جُلاس المائدة ، كنت حينها اراقب ذلك المشهد مرتبكا ، اذ ليس من المعقول ان يكون الأدباء بهذه الخشونة وهذا الإحتدام وهذه الوقاحة ؟ وافترقنا..كنت حينها في جبهة الموت " الحرب " اتحيّن ايام الإجازة للقدوم الى بغداد..ثم حدث اللقاء المهم في حياتي مع الوشق البري بعد حولين من لقاء حانة الغابات حين وجدته جالسا بمفرده الى طاولة ملاصقة للنافذة المطلة على بداية جسر الصالحية من جهة شارع الرشيد في حانة شريف وحداد ، استأذنته للجلوس الى جواره ، حرك رأسه دلالة الموافقة ولما سألته لأطمئن على وضعه المعايشي غمغم بكلمات غير مفهومة ثم رفع كأسه بسأم وارتشف جرعة صغيرة من العرق دون مازة حتى بزغ احد مريديه فجأة من الذين يكتبون شعرا للأطفال ،اطلق الوشق ضحكته وقال:
- اهلا بالنفايات..
لدقائق ساد المشهد طقس من المزاح الثقيل بينهما وحسم اخيرا بربع عرق اضافي الى الوشق يدفع حسابه ضيفنا القصير القامة الذي انضم الى الطاولة .. ردد الوشق باسما:
-  لا تزعل .. كنت امزح معك .
ظل الشاعر القزم صامتا وانشغل بمسح الغبار عن نظارته بمنديل ازرق ، بينما كنت اتحرق شوقا عسى يطلع هذا الوشق البري على بعض اشعاري ، بعد دقائق تجرأت وبيد راعشة وضعت احدى قصائدي امام ناظريه ، لاحظ الوشق ارتباكي ثم انتشل الأوراق من فوق الطاولة واستغرق مثل امير بقراءة القصيدة بحرص واضح ، هذا هو الوشق البري عندما يقرأ.. يقرأ بإخلاص على العكس من الآخرين الذين يقرأون استعراضا ليس الاّ ، صار الوشق بمناخ آخر بينما انبرى القزم يثرثر مع نفسه ، وبعد ان فرغ من قراءة القصيدة صرخ فجأة بوجه مريده طالبا منه السكوت ورفع نظره يتفحصني بخبرة مئات الشوارع التي جابتها حياته ثم مدّ كفه الخشنة وصافحني قائلا:
- من هذه اللحظة اصبحت صديقي .
علق القزم بعد ان فرقع اصابعه :
- دع الفتى .. لاتخدعه .
ردد الوشق البري بهدوء :
-  هذا شاعر 
وابتدأت الغواية ..


2
الإكتشاف

بعد تلك الجلسة توطدت علاقتي مع الوشق البري ، واصبح يدعوني للتجوال معه في ازقة البتاوين والحيدرخانه بحثا عن خمرة رخيصة او نذهب سوية الى موائد الأدباء في الحانات واحيانا نزور المقهى التي يؤمها معظم المثقفين ، متباهيا باكتشافه لشاعر جديد ، كنت حينها بأقصى درجات النشوة والإطمئنان ، الواقع ان هذا الوشق البري يحبه الجميع حتى الذي يضمر له الكراهية يجد نفسه مضطرا لملاطفته لأن هجاء الوشق اذا ما قرر ذلك يكون حارقا خارقا يشل الأخر تماما ، وذات ليلة كنت اجلس برفقته في حديقة نادي الأدباء بينما كان الجميع مشدودين لسماع ارقام لعبة " الدمبلة " ، كان المنادي بالأرقام قاصا اشتعل رأسه بالشيب ولما بدأ يكرر بصوته الحاد الرقم واحد :
- واحد .. واحد ..
 فما كان من الوشق البري الذي وصل التذمر في سلال قلبه الأبيض حد الإختناق ان يصرخ مع الصمت البليد في فضاء الحديقة :
- نعرف انه واحد .. ولكن متى نرى الذي يشطره الى نصفين ؟؟
تعالت الضحكات في ارجاء الحديقة من الجميع ، ولما ادرك ادباء السلطة انهم وقعوا في حرج كبير حيث تورطوا باطلاق ضحكاتهم ايضا مما دعى احدهم ان يحذر الوشق بشدة حتى يكف عن التعليق والا يكون مصيره رصيف الشارع.. لم يلتفت صاحبي لتهديد ذلك الأديب السمين وهمس في اذني قائلا:
- لم اتوقع ان رسالتي المشفرة سيهضمها هؤلاء بهذه السرعة ..
 ثم اطلق ضحكة نصر معززة برشفة خمر من كأسه الأشيب.. هذه هي اشارات الوشق البري القاتلة، فالتورية واضحة في طرفته التي دحرجها برشاقة مثل رمانة يدوية انفجرت بشظاياها على الحاضرين وكان يقصد رأس السلطة المرعبة للبلاد في ذلك الوقت ، من سوى هذا الوشق يجرؤ على قول ذلك التهكم بظرف عصيب كان رفاق الزيتوني يعدمون حتى شهقة الهواء اذا ماعرفوا انها لا تتوائم مع انفاسهم وافكارهم ..
وصار الوشق يترقب قدومي من جبهة الحرب حتى امضي الأيام السبعة من الإجازة برفقته وكنت اشعر معه كما لو اننا من عالم آخر وهبطنا سهوا على هذه الأرض ، بينما امست امي في حيرة من امرها وراحت تسأل اصحابي في المدينة لمعرفة سر غيابي في بغداد اذ ليس من المعقول ان يترك ولدها البيت ويقضي ايام إجازته في فنادق مليئة بالقمل ثم يلتحق الى الجبهة ثملا وهي لا تعلم ان صداقة نبيلة بدأت تنمو بيني وبين كائن متفرد يدعى الوشق البري والذي يتمتع بذكاء لامع قلما اجد له شبيها بين الأصدقاء ، لذا ليس عجبا ان يرانا البعض لا نتحاور مع بعضنا لكن يفهم كلانا ما نبتغيه في جلسات عاصفة ، هذا هو الوشق البري القادم من مدينة النار الأزلية الى بغداد منتصف الستينيات متسلحا بلغة انجليزية صافية اكتسبها من اختلاطه لسنوات مع عمال شركة انجليزية جاءت تنقب عن النفط بمدينته ، وقد اسس مع ادباء آخرين جماعة كركوك ، واصبحوا لامعين لا يشق لهم غبار خلال فترة وجيزة ولعل جماعة كركوك من اكثر الجماعات الأدبية التي ظهرت في العراق المعاصر شهرة، وانتاجا، وتأثيرا ، وقد ضمت هذه الجماعة نخبة من ممثلي الحركة الثقافية العراقية شعرا ونقدا وقصة وفنا تشكيليا وترجمة ومقالة. ويكاد مؤرخو هذه الجماعة، ومنهم من عمل معها، يتفقون على ان احد الآباء المؤسسين الأوائل لهذه الجماعة هو الوشق البري وكان القاسم المشترك الأعظم الذي جمع هؤلاء المثقفين تحت مظلة ادبية واحدة هو روحهم التجديدية، وتبرمهم من الأوضاع العامة التي كانت تسود البلاد آنذاك، ونزوعهم الى التمرد ومعاناتهم من الإحباط واصرارهم على السياحة في ارض الله الواسعة وفوق هذا وذاك فان معظمهم كان من مدينة النار الأزلية ، وكانوا جميعا باستثناء اثنين منهم يجيدون الإنكليزية ثم انفرطت هذه العصبة بعد سنوات حتى مات في منفاه شاعر الضوء وآخر لفظ انفاسه الأخيرة في مدينة الذهب الأسود وهو لا يمتلك شروى نقير وهاجر الى منفاه السويدي شاعرهم المعمر الأب يوسف سعيد بينما تألق صاحب الشجرة الشرقية بتدوينه الإبداعي وظل احدهم يعيش على اطيافهم ويكتب نصوصا تكاد لا تسمع ولا ترى بعد ان داهمه مرض السكرّي ، ولما وصل الوشق البري الى بغداد اثار انتباه الوسط الأدبي بأفكاره النيرة وثقافته الرصينة التي اقترنت بقراءات مكثفة لروائع الأدب العالمي ، ونشرت مجلة العاملون في النفط بواكير قصائده النثرية ، ثم نشرت مجلة الأقلام ترجمته المهمة لكتاب سلفادور دالي وترجم ببراعة قصائد للشاعر البريطاني تيد هيوز علاوة لنشر قصائده في هذه المجلة او تلك الجريدة بين حين وآخر ، وعندما حل ضيفا على فنادق العاصمة للمرة الأولى ، كان الوشق البري يتمتع بإناقة مثيرة تشبه الى حد بعيد اناقة الممثل الأمريكي جميس دين كما اخبرني ذات مرة غير ان العوز وعسر الحال والفاقة اجبرته على التخلي بعد سنة عن اناقته ثم طقوسه في الكتابة والقراءة واصبح بنظر الذين يجهلون هويته الثقافية والإنسانية مجرد مشرد بوهيمي ينام على ارصفة الميدان ، اجل لقد طحنت الأيام العصيبة والنحسة حياته المجبولة بالعذاب لكنه لم يتخل ابدا عن مبادئه وعنفوان فكره ونظافة قلبه ايضا ، حتى اصبحت مؤمنا ان الحياة التي امضيتها بصحبته من الصعب العثور على حياة شبيهة لها في المستقبل .. اجل ان ساعة واحدة تمضيها مع الوشق البري تزقك من تجارب الحياة ما يعادل اسفارا كاملة .
 آه من التداعيات التي تتشاجر بشكل فوضوي داخل مسارب روحي هذه اللحظة ، بل اراها تتزاحم في ما بينها على بوابة عقلي وكلها تسعى ان اعتقها من معتقل ذاكرتي الى اديم الورقة لكني اقول لها مهلا ايتها الذكريات .. بالله عليك قفي بالطابور حسب الأهمية ..والا سأتوقف من اطلاق هذه الشهقات الذبيحة عن تلك السيرة الباسلة الى الناس .. لي الحق ان اغازل العندليب المخبول الذي مازال يشدو صاخبا في رأسي حتى يستمر في هذه الإنثيالات.. ذلك العندليب الذي رأيته ذات صيف ويوم كنت طفلا يحط فوق غصن شجرة تين وقد جذبني شدوه الساحر، ثم طار وحط على رأسي مرفرفا بجناحيه حتى شعرت به يلج بهدوء الى فمي ثم يصعد ليستقر في وكر صغير داخل رأسي .
اجل ايها الوشق البري انت الوحيد الذي صدق حكاية هذا العندليب الذي مازال يربض في رأسي ، فقد كنت تعشق جنوني الذي تفاقم في مجاهيله اللهب يوم سمعتك تردد في وحشة ليلة العيد اغنية موغلة في حزن الجنوب :
- حنْ يا دليلي .. يادمعة سيلي ..
ويالها من مفارقة صادمة حين تسمع هذا الكائن الكاتدرائي يترنم بأغنية لداخل حسن ويحرص على ارتداء انظف ملابسه في العيد كما لو انه امضى شهرا كاملا من الصيام ، وفي عيد الأضحى يبدو كأنه عاد توا من بيت الله الحرام .. اعياد كثيرة مرت علينا سوية وعادة مايكون اترابه من الصعاليك برفقته في كل عيد .. كان يقول : 
- احب اعيادكم لأنها تحمل فرحا فطريا وروحا شفافة ونضالا خفيا على هذا العار ..؟؟
 كان العار الذي يعنيه هو الرئيس ، مرة انتظرنا حلول العيد في حديقة نادي الأدباء بعد ان توسدنا الحشيش .. واخرى في فندق شعبي رخيص كان صاحبه يهددنا بين كأس وآخر بالطرد لو تكرر ذهابنا الى التواليت لقضاء حاجتنا بسبب الديون التي بذمتنا .. ذات مرة امضينا نترقب صباح العيد في حديقة الأمة .. كسبنا يومها نقودا كثيرة .. فلقد جاء احد المحسنين آخر الليل وراح يدس النقود بجيوب النائمين على مرج حديقة الأمة مع كيس يضعه بجوار كل مشرد .. كان الكيس يحوي على ملابس داخلية وصوابين وليفة حمام .. حتى هذه الأكياس صارت بحوزة نادل الحانة بعناها عليه حتى نواصل جلستنا في ظهيرة العيد .. اجل كان الوشق يحب الأعياد الحقيقية ويستعد لها قبل ايام .. بينما عيد رأس السنه الذي يمثل دينه ، في حسابه كسائر الأيام .. في واحدة من الأعياد قرر الذهاب معي الى مدينتي المقدسة ، وحين وصلنا اخذته في جولة بشوارع المدينة ولما شاهد السقائين من الأطفال راح يوزع النقود عليهم ويحثهم على شتم العار ..!!  لما سكرنا في البيت قال لي بالحرف الواحد:
- هذه مدينة مؤهلة لطرد العار ..
 قلت له محذرا:
- انت سكران ... ارجو ان تخفض صوتك حتى لايسمعنا الجيران . 
اجابني بضراوة:
- مدينتك لم تتلوث بعد وبوسع اناسها هزيمة هذا الديكتاتور قبل فوات الأوان .
وسكرنا .. كدنا نطرد من البيت بعد الساعة الرابعة فجرا .. فالوشق صار يسخر من كل شيء  وحتى من صوت المؤذن .. قال عنه تسمم بوصايا العار .. خرجت به مضطرا من البيت عند الصباح .. لم يفطر الوشق .. وكان انيقا بالقميص الذي كان هدية من صديقي الرسام.. وصلنا الى مرآب المدينة .. وفي الحافلة وبخًّ بشجاعة احد المسافرين الذي ذكر تملقا افضال الحكومة على الناس واجبره على السكوت ثم بصق من خلال النافذة على جدارية للرئيس خطفت امام ناظريه بينما كانت الحافلة تنطلق بسرعة.. وها انا اناديك ايها الوشق البري واقول :
- ربما بعد غياب بياضك عن الأرض سيعم السواد ..
 اه يا صديقي لكم احسدك الآن، لقد عشت لنفسك بشكل عجيب وربما يفاجأ البعض من هذا القول الآن ، لأن هذا الوشق يعشق روحه برغم شقائها ولا يؤمن الا بأفراد معدودين وهذا هو السر في محبة الآخرين له.. ولطالما كانت حياته المثيرة حديثا محببا يتداولها الناس الذين يعرفونه وتندرا للأدباء في مجالسهم ، فهذا الكائن الغريب سكن قلبه حنان الأرض وعذاباتها ، وحين يأوي الى فراشه البالي اسفل السلم في فندق البتاوين والبرد قاس لايرحم مثل محارب مغولي ؟ كان لايغمض عينيه مالم يتأكد ان عامل الفندق قد جاء لي بملاءة ممزقة اغطي بها جسدي ، ذات ظهيرة وبمناسبة انعقاد مهرجان المربد قال لي بحماس : 
- لنذهب الى المنصور ميليا ، هناك سنرى الأدباء جميعا ، الذين نحبهم ... نقبلهم من خدودهم والذين نمقتهم نرشقهم بالحذاء... 
- لكن الحذاء الذي ينتسب الى قدميك ليس بحذاء !!
 فجأة مرقت قطة سائبة وامرني بالصمت وظلت نظراته تلاحقها حتى اختفت في الزقاق ، لكم يحب القطط لأنه ينحدر من سلالتها وصفن يتأملني بشفقة ثم قال :
- بلا فلسفة يا بني دعنا نذهب ...سأتدبر كل شيء ...
اعرف هذا الوشق عندما يصدر الأوامر وعندما تزدهر فكرة برأسه لايتراجع مطلقا من تنفيذها .. دخلنا الفندق .. شعرت ان الوشق لو يمشي حافيا افضل ، ذلك ان حذاءه الممزق كان برهة يتوجه الى الشمال واخرى الى اليمين والناس يهربون تباعا من مواجهته ، همس لي متسائلا :
- لماذا يهربون هؤلاء الحمقى من امامي ؟ هل انا مفزع لهذه الدرجة ؟

3
الغرفة 813

مازلنا في فندق المنصورميليا،لا ادري حتى اللحظة كيف سمح بواب الفندق للوشق البري بالدخول ؟ كان البواب بقامته الطويلة وسحنته السوداء يضع عمامة بيضاء على رأسه اضفت سحرا فكاهيا على وجهه الزنجي وكان الزي العباسي المزركش الذي يرتديه يشير الى هويته دون لبس كونه من عبيد هارون الرشيد ، بينما كان الوشق ثملا وقبل ان يهم بالدخول الى الفندق لطم خديه لإستعادة صحوه ثم بدأ بتقريع نفسه بصوت جهوري :
- تماسك ايها الوشق .. لا تترنح في مشيتك حتى تتجاوز هذا الخانق الأسود ..
 كان يقصد بالخانق ذلك البواب الزنجي العملاق ، وبدهاء عجيب تغيرت ملامحه حالما وصلنا الى بوابة الفندق وراح يتحدث بلغة انجليزية كما لو انه قد استغرق بحوار مهم معي وهمس بين سيل الكلمات الانجليزية:
- هزّْ رأسك يا بني ..
 حركت رأسي دلالة على فهمي لما يقوله وانطلت اللعبة على البواب الذي ظن صديقي احد الضيوف الأجانب ولم يجرؤ على الإعتراض برغم ملابس صديقي الرثة والحذاء الطنبوري المفتوح الفم والواقع اننا حاولنا شراء حذاء مستعمل من الباب الشرقي لكن الوشق غير رأيه فجأة وصاح محتجا:
- حذائي الذي لا يعجبك .. اراه يناسب هذا المهرجان ..
 ثم هرع لشراء ربع عرق اضافي بالمبلغ الذي اتفقنا ان يشتري به الحذاء ..نحن الآن في المنصور ميليا والشعراء العرب يملؤون الصالة والكائن الغريب في المشهد الحضاري هو الوشق البري، وبينما كنا نبحث عن مكان نجلس فيه حتى اقبل نحونا صديقنا الشاعر الغجري وحين ابصر هيئة الوشق الفلكلورية والغريبة تدارك الأمر بسرعة وقام بالتغطية حتى يبعد عن عرّابنا الشبهات فراح يتحدث مع موظفين الفندق قائلا:
- صديقي هذا من الأثرياء .. لا تخدعكم ملابسه الرثة ، ليلة امس تبرع امامي بمئة الف دينار لعوائل تريد حج بيت الله .. رجاء لا تنزعجوا من هيئته المتواضعة ..
لم يرق للوشق حديث صديقنا فصرخ به :
- اغرب عن وجهي ايها الغجري ..
 ثم انتبذنا ركنا للراحة عثرنا عليه بصعوبة ولم تمض الا دقائق حتى مرّ من امامنا مسؤول ثقافي رفيع في الحكومة يمشي متبخترا وخلفه الشاعر السمين .. علق الوشق بصوت حرص ان يسمعه الآخرون:
- عارات !!
توهج الدم بوجه المسؤول غيظا وقال حانقا:
- ويحك ايها الوشق .. نحن عارات ؟
 كان الجميع يعرف ان هذا المسؤول الثقافي من اشرس ادباء السلطة واشجعهم بإتخاذ القرارات التي تنفع اترابنا من الصعاليك ، رد الوشق ببرود وعلى وجهه طيف ابتسامة ماكرة:
- ناوشني بسرعة .. وسأكف عن التحرش بك .. 
ضحك المسؤول الثقافي حتى اهتز بدنه كزورق يتلاطمه الموج واخرج من جيبه خمسة وعشرين دينارا عمد ان يراها الجميع قبل ان يضعها في يد الوشق وكان من بين الذين ابصر ذلك المشهد احد الشعراء العرب الذي وبخ الوشق قائلا:
- لِمَ تأخذ عطاياك من هؤلاء ؟ لو طلبت مني لكنت وهبتك ماتريد ؟
رد الوشق باسما على ذلك الشاعر الأشهب والذي تربطه معه علاقة صداقة يوم كان في بيروت قبل سنوات : 
- لم انل منهم الا القليل من حقوقي ...!
ليس سوى الوشق من يجرؤ على مخاطبة هؤلاء بهذه اللهجة المدمرة والواضحة وادركت حينها ان صاحبي صار يضمر غضبه فاقترحت عليه مغادرة المكان واستجاب لرغبتي وبينما كنا نهم بالخروج من الفندق حتى برقت فكرة في رأسي .. طلبت من الوشق التباطؤ في خطواته وهرعت الى موظف الاستعلامات بثقة لا ادري من اين هبطت على روحي وقلت له:
- رجاء مفتاح الغرفة 813 ..
وضع الموظف الأنيق بيدي المفتاح على عجل وانا غير مصدق ذلك ، لقد اخترت بشكل عشوائي رقم الغرفة ولا ادري من هو صاحبها؟! وهتفت:
- هيا ايها الوشق ..
في المصعد بدأ الوشق يتثاءب فاضفى على مغامرتنا هذه ملامح الثقة وابعد الريبة عنا، فالتثاؤب دلالة على ان هذا الشخص راسخ و لا شائبة عليه وعرفت فيما بعد انه تعمد التثاؤب فلقد كان معنا في المصعد احد موظفي الفندق الذي راح يرمق صاحبي بإحتقار ولم يجد الوشق امامه سوى حيلة التثاؤب.. دخلنا الغرفة واول المستقبلين لنا كانت قنينة من الويسكي منتصبة على الطاولة ، بدأ الوشق يرقص ويردد اغنيته المفضلة :
- " انا البي ليك ميال .." 
والحقيقة تصرفنا بنبل بادىء الأمر فلم نفتش الحاجيات المنتشرة في اركان الغرفة بينما العطر الفرنسي كان طاغيا في فضائها ، خمنت هوية صاحب الغرفة من الكتب المتناثرة هنا وهناك ، ربما يكون شاعرا وبدأنا نكرع كؤوس الويسكي ومزتنا الفستق الحلبي، كان الوشق يشرب بسرعة خشية من المداهمة المتوقعة لنا في اية لحظة ، بعد ان سرت الخمرة الملائكية في دمه قرر الإستحمام وهو يحثني ان افتش الدواليب عسى اعثر على زجاجة عرق ويبدو ان الويسكي لا يروق له فأخرج ربع العرق الذي ابتاعه من الباب الشرقي بدلا من شراء الحذاء وراح يرتشف منه جرعات ثم طلب مني ان ادع  بعض الشراب في الزجاجة لصاحب الغرفة وحين دخل الى الحمام خرج منه بعد لحظات هلعا كما لو ان قنبلة ستنفجر فيه وابعد عن رأسه فكرة الإستحمام وراح باغفاءة على السرير الحريري بينما بدأت المخاوف تزحف  الى مخيلتي .. اننا الآن في غرفة نجهل صاحبها والويل لنا لو ظهرت لأحد ادباء السلطة والجمت تلك المخاوف بكؤوس اضافية من الويسكي ويبدو اني غفوت ايضا حتى صحوت على صوت لم اتمكن من معرفة صاحبه ولم تكن لدي الجرأة على فتح عيني لأرى مايحدث في الغرفة ، فعمدت للنوم الكاذب وثمة سؤال صار يقرع في جوف رأسي:
- من هذا الشخص الذي اصبح معنا الغرفة ؟



4
هجوم الصعاليك

ازداد الصخب وتداخلت الأصوات داخل الغرفة .. قلت لأفتح عيني وليحدث ما يحدث وهالني ما رأيت: كانوا اربعة اشخاص مستغرقين بشرب العرق "الفل" الذي يبدو انهم جاؤا به من ازقة الحيدرخانة ومن المؤكد انهم حملوه تحت قمصانهم مثلما نفعل نحن.. اذاً هاهم بعض الأتراب من طائفة الصعاليك وانصار الوشق البري وما اكثرهم في الحانات اصبحوا معنا في الغرفة الآن .. الغريب لم يأبهوا لشيء واستمروا في ضحكاتهم وحوارهم المتوتر ووجدت السؤال يخرج من فمي موتورا هو الآخر:
- من انتم رجاء ؟؟ وكيف دخلتم ؟ 
رد احدهم على سؤالي بصوته الأوبرالي واثقا :
- لقد وجدنا الباب مواربا فدخلنا ..
ثم اردف بعد ان نفث دخان سيجارته اللف في فضاء الغرفة :
- انها غرفة الوشق البري ولا يحق لك السؤال ..
وكرع رشفة عرق من الزجاجة مباشرة ، خمنت ان العراك معه يعني هزيمتي حتما فلقد كان من الضخامة والطول ما يؤهله للإنتصار حتى على مصارع محترف ، لم اجد سوى الوشق الذي مازال غافيا بوداعة للإستغاثة به .. وصرخت :
- ارجوك استيقظ لقد حلت الكارثة ..
 تمطى الوشق البري قبل ان يفتح عينيه المترمدتين وحين ابصرهم هتف محتجا :
- ايها الأوغاد من اوصلكم الى هنا ؟ هيا بسرعة عودوا من حيث جئتم وسألتحق بكم بعد ساعة ..
 انفجر الأربعة بالضحك وهم يجمعون الليمون الذابل من فوق الطاولة التي تناثرت عليها اعقاب سجائر اللف وغادروا الغرفة بعد ان توعدني احدهم بعقوبة موجعة في قابل الأيام .. بيد ان الوشق طمأنني قائلا :
- لا تقلق من تهديده الخلب ، انه يمتلك قلبا طيبا وهو فنان مسرحي يعجبك ..
وقذف بقملة قنصها من تحت ابطه الى ارضية الغرفة .. ماهي الا دقائق حتى دخلت وجبة اخرى من الصعاليك الى الغرفة يتقدمهم الشاعر الغجري وقبل ان يعترض الوشق على قدومهم باغته الغجري برشقة من القبلات وهو يتوسله على عجل قائلا:
- اطمئن ايها الوشق البري لن نمكث طويلا ..مفرزة سرية دخلت الى الفندق تبحث عن الهاربين ولم نجد سوى غرفتك للتخفي بها ..
 صرخ الوشق بعصبية:
- اية غرفة ؟؟ نحن استولينا عليها بالإحتيال..ثم من اين جئت بهذه الكذبة ، هل من المعقول ان الإنضباطية داخل الفندق ؟
ثم ضحك الوشق وهمس متشفيا :
- يا لهذه المهزلة... ماذا سيقول الشعراء العرب ؟ 
التفت الى وجه الغجري مستطلعا ملامحه ليوقن من صحة الكلام الذي لا يصدقه احد فبادر الأخير وهو يعيد ترتيب خصلات شعره الحلزونية امام المرآة :
- كما تعلم ان معظم الأدباء فروا من الحرب بما فيهم انت هربت ايضا من الجيش الشعبي والمفرزة التي اعنيها الشرطة من الأدباء الذين قدموا قائمة باسمائنا الى رئيس الإتحاد ..
هيمن على فضاء الغرفة هدوء مخيف فجأة استمر لدقائق ثم سمعنا ضحكة احد الشعراء الصعاليك كالصهيل وقال يردع الغجري : 
- كفْ عن هذا الدجل وقل لهم انما جئنا لكي نشرب العرق ..
يالها من معضلة .. الجميع لايصدق ان الغرفة لاتعود لنا... الكائن الوحيد الذي ظل صامتا بين جلبة الصعاليك هو ذلك الذي يشبه بردية جنوبيه ، كانت خصلات شعره مخضبة بالحناء وقد ابتعد عن ثرثرتنا الى الشرفة وزجاجة ربع العرق تستقر بكفه كطائر جريح .. تنبه الوشق لهذا الكائن النحيل واقترب اليه متسائلا :
- ان لم اكن مخطئا ، فالذي اراه امامي الآن هو الشاعر يسينين ؟
تبسم الشاعر القروي مندهشا ورشف جرعة من الزجاجة التي بيده ثم اجاب :
- عجبا ايها الوشق البري .. هل من المعقول انك لا تعرفني ؟
تراقص الوشق مرحا وهو ينفث الرذاذ بوجه الغجري مؤنبا :
- تبا لك يا غجري .. كان عليك اخباري مبكرا عن وجود ضيف من العيار الثقيل معنا في الغرفة.
قرع الوشق كأسه بربع العرق الذي بيد الشاعر القروي وقال بحبور :
- نخبك .. يا اهلا بالشعراء الصعاليك .. الليلة سنشعل بغداد بقصائدنا .



5
مربد في غرفة

في لجة الصخب والفوضى نسيت ان الغرفة لا تعود لنا..وان اطلالة صاحبها على حين غرة سيشكل لنا مأزقا لا تحمد عقباه بينما استل الغجري ملفا من عب قميصه وراح يقرأ قصائده التي كتبها اخيرا عن الوشق البري والغرفة تزدحم بالمعجبين من الشعراء العرب ..وعلق احدهم :
- المربد الحقيقي هنا ...
مما شجع عصبة الشعراء الصعاليك لقراءة قصائدهم تباعا على مجلس الحاضرين الذين مازالوا يتدفقون على الغرفة السليبة.. وامتلأت الغرفة بالزائرين بينما كان احد الشعراء الصعاليك ينشد قصائده وقوفا عند الباب .. نعم كان مهرجانا عفويا لم نصدق انه يحدث الان .. احد الشعراء العرب جاء بكاميرته وانهمك بالتقاط الصور لنا جميعا بينما حرص آخر لتسجيل وقائع المهرجان التي كانت مجمل القصائد به هجوا واضحا للحرب وللسلطة المتجبرة ..ولما وصل الدور للشاعر القروي لم يتردد من قراءة قصيدة تمجد الحزب الشيوعي وقال في مقطع منها :
- هذا رجل احمر شرط السكين ..
وبدأ البعض يتسرب خلسة من الغرفة اذ ليس من المعقول ان يغامروا بالبقاء معنا والوشق البري راح يهتف :
- اين هذا العار ليأت ويتعلم اصول الثقافة من هؤلاء الصعاليك.. ؟
لما وصل الإحتدام هذا الحد تبخر الجميع واعتذر البعض منهم بأدب جم تحت ذريعة كاذبة مفادها الإرتباطات الكثيرة لهم مع شعراء آخرين .. لكن الحجة لم تنطل على الوشق فتدفق رشاش الشتائم من فمه ممزوجا بسيل من اللعنات على المؤسسة الثقافية التي سمحت لهم بدخول الفندق .. وشعرت حينها ان الغرفة صارت شاحبة وفقدت الوهج المشع الذي كان يبرق بعيون الجميع بينما وجد الشاعر القروي الفرصة مناسبة لتوبيخ الوشق فقال له :
- بسبب شتائمك هرب الجميع ..
لم يرد الوشق البري واكتفى باشعال عقب سيجارة التقطها من الطاولة فلقد نفدت السجائر لدينا..والحق ان الوشق يشعر بالخوف ويساوره القلق على افعال ارتكبها قد تصل به الى الإعدام فلم يمض على خروجه من الأمن العامة الا اسابيع بعد ان اعتقل مع زمرة من الصعاليك في حانة الغابات ولولا كبر سنه واعتلال صحته ومعرفة السلطة بإدمانه على الخمرة لكان في عداد الموتى .. ولذا ليس عجبا ان يرتبك هذا الوشق البري احيانا.. وطيلة الوقت الذي امضيته مع الوشق بت اعرف هواجسه ورغباته دون الحاجة الى الكلام معه..ومما زاد من قلقه ان الغجري لاحظ شيئا غريبا في سقف الغرفة يشبه اللاقط وقال بصوت شابه الإرتعاش :
- كل ما تحدثنا به التقطه هذا الجهاز ..
 وحسم الأمر الشاعر القروي قائلا:
- المبتل لا يخشى من المطر .. 
وبرغم هيمنة الخوف علينا كان لابد من طرده بجرعات اضافية من العرق.. اتفقنا على الصمود في الغرفة لحين مجيء صاحبها ..واقترح القروي بضرورة ذهابي الى الصالحية لجلب المزيد من العرق الفل وحين اجبته ان النقود التي بحوزتي لاتكفي رد منزعجا : 
- خذ خاتمي هذا وبعه مع الساعة التي بمعصمك وتدبر خمرتنا  .. والا غادرت المكان ..
كان الشاعر القروي يراهن على محبتي العمياء له حين اصدر اوامره لي ، وقد نجح من فرض سيطرته على عواطفي في تلك اللحظات بعد ان وضع خاتمه الفضي بيدي ولذا هرعت بالنزول عسى اصادف صديقا كريما استلف منه بعض الدنانير..وبينما كنت اهمُّ بمغادرة الفندق سمعت الشاعر السوداني يوسف الحبوب قرب استعلامات الفندق يردد الرقم 813 .. كان ثملا وقد وقف الى جنبه المعتوق.. عدت بتؤدة لأستطلع الأمر وهمست لصديقي ان يصعد بالحبّوب الى الغرفة ..ولأن المعتوق كان ثملا هو الآخر كاد يفضحنا عندما قال بإسترخاء:
- صديقنا الحبّوب اضاع مفتاح غرفته في نادي الأدباء ..
 ضغطت على يد المعتوق بكل قوتي وقلت وانا اكز على اسناني :
- المفتاح بحوزتي ..
ارتعد جسد المعتوق بصعقة مباغتة وبلسان خدر وعينين تائهتين غمز لي قائلا:
- هــا  ؟؟ فهمت .. فهمت ..
ثم جرّ الحبّوب من يده الى حيث المصعد بينما انطلقت الى منطقة الصالحية مطمئنا..مادامت الغرفة للشاعر الحبّوب وهو لايختلف عن طقوسنا .. اشتريت لوازمنا بعد ان وهبني عقيد عسكري يكتب القصة بعض النقود وعدت خفافا الى الفندق وقبل دخولي الى الغرفة لمحت الماء يتسرب من اسفل الباب الى رواق الفندق فصرخت :
- غرقنا يا ناس ..
كان الماء يغطي ارضية الغرفة ومازال ينهمر من حوض السباحة الذي يطفو في داخله القروي بنصف اغفاءة .. وجاء القرار سريعا من الوشق :
- لنترك الغرفة مادام صاحبها قد عاد لها..
 انسحبنا على عجل من الغرفة وتركنا الحبوب والمعتوق يغطان في نوم عميق ولما هبطنا الى الصالة لم يعترض طريقنا رجال امن الفندق ونجحنا بالفرار والقروي مازال شعره المحنى يقطر ماء ، وحين اصبح الفندق الشاهق بنوافذه التي تسطع بالأنوار الجليدية خلف ظهورنا استقبلنا جسر الجمهورية ، كان الوقت ليلا ومن هدوء المكان الذي يحيط بنا ادركنا ان الساعة كانت متأخرة وليس هناك من مكان نلوذ به غير حديقة الأمة..انطلقت خطانا المتعثرة بالرؤى ولذة الحبور لاهثة على رصيف جسر الجمهورية والوشق يترنم بسعادة : 
- حن يادليلي .. يادمعة سيلي ..
واخذ الغجري يهز اكتافه برقصة جنوبية تشاطر ترنيمة الوشق البري بينما الشاعر القروي يطمئن نفسه مرددا :
- المهم لدينا عرق  ..
 وعبرنا الجسر بسلام .


6
مربّع الصعلكة

ايقظتنا شمس الباب الشرقي مبكرا .. وحديقة الأمة مزدحمة بالهائمين والجنود الذين عمدوا بشتى الحجج تأخير موعد التحاقهم الى الجبهات، كل هؤلاء يفترشون الحشيش الأسود!! اكتشفنا ان الغجري لم يكن معنا، يبدو انه تسلل ليلا ونحن بغفوة عميقة والتحق الى وحدته العسكرية في جبهة الشمال، بيد ان شاعرنا القروي سخر من ظنوننا وقال :
- هل تصدق ان الغجري يترك المربد في بدايته ويعود الى الجبهة ؟
 وقبل ان ينهي زعيمنا الوشق البري مهمة سقيه لشجرة الأثل الحزينة من صنبور الماء المالح! المتدفق من فجوة في بنطاله الرمادي ، كنّا حينها نسمع خرير تساقطه مع سحابة من البخار تتصاعد منه..حتى اطل الغجري علينا بعينين لامعتين يحمل لفافة جريدة ضخمة سرعان ما فتحها وفاحت منها رائحة الشلغم المسلوق ، صرخ الوشق مبتهجا :
- حقا انت شاعر خرج من ثقب جدار ؟! 
الحق ان ابانا الوشق نباتي ويندر ان تراه يأكل لحما ويحسب الشلغم المسلوق من اطعمته اللذيذة والمفضلة لديه لسهولة تناولها بمعونة نابه الوحيد وهنا يكمن سرّ محبته للأطعمة الطرية التي لا تحتاج الى جهد وفم عامر بالأسنان، ولأن الوشق لا يملك سوى نابه الوحيد..نراه دوما يبحث عن حساء العدس والفاصوليا في المطاعم متبرعا لنا بحصته من اللحوم المشوية التي يغدق بها الكثير من محبيه عندما يصادفونه في مطعم او حانة..بل انه كثيرا ماكان يمتنع من قبول عروض اطعمتهم الشهية حفاظا على كبريائه الكاتدرائي كما يسميه القروي..خاصة دعوات الطعام الموجهة له من ادباء الزيتوني فهو يتطير منهم ولا يطيق رؤيتهم ويحتقرهم ويراهم صامولات غبية في ماكنة السلطة .. لذا كان يتركهم في حرج عندما يعرضون عليه مغرياتهم ويفضل البقاء جائعا لكنه كان يستثني بعضهم ويعلل ذلك لطيبة قلوبهم وكان يقول عنهم:
- ان قلوبهم معنا وسيوفهم علينا...
بعد ان استيقظ معظم نزلاء حديقة الأمة.. كان لابد من فكرة جديدة تهبط على رؤوسنا المشبعة بالخمرة لكي نمضي نهارنا الجديد بعيدا عن انظار الفضوليين والإنضباطية والوشاة.. اقول الوشاة لأن هناك الكثير من الأدباء المحسوبين على السلطة صاروا ينظرون لنا بعين الريبة وباتوا يظنون ان جهات سياسية معارضة تمدنا بالمال سرا حتى نقاوم شظف العيش وان تلك الجهات هي من تقف وراء ديمومة حياتنا حتى الآن ، ونقل لنا احد المحبين ان واشيا التقى بمسؤول ثقافي يتمتع بمنصب رفيع واخبره بحيرة :
- لا ادري اين وكيف ومتى يكتبون هؤلاء الصعاليك نصوصهم المبدعة تلك التي نطالعها منشورة بين حين وآخر في الصحف ؟ بينما هم يعيشون بطريقة غامضة داخل العاصمة، ومن اين يأتون بالنقود ويشربون كل يوم ؟
والحق اقول ان حياتنا كانت سلسلة من المصادفات ليس الاّ..كنّا نستيقظ صباحا من تحت سلّم فندق البتاوين في الباب الشرقي ونحن لا نملك شروى نقير..احيانا ينتصف علينا النهار دون ان نتذوق قدح الشاي.. وكنا نمضي ظهيرتنا في المكتبة الوطنية كل يوم نقرأ ما تيسر من كتب الشعر والرواية والنقد واحيانا ننصرف لقراءة الصحف والمجلات القديمة التي صدرت قبل عشرين سنة او اكثر ، وكان الوشق البري اكثرنا شغفا بالقراءة خاصة دواوين الشعر باللغة الأنكليزية ، واذكر انه استعار مرة قصائد لتيد هيوز بعد ان وضع هويته الشخصية كرهينة عند امين المكتبة ولم يسترجعها ومن يومها ظل بلا اوراق تثيت شخصيته وهكذا فعل القروي ايضا بعد اسابيع  بعد ان استعار كتابا يتحدث عن تروتسكي ، وعلى مقاعد تلك المكتبة طالما كتبنا قصائدنا وعروضنا على الكتب التي نقرأها ، كنا نحرص للذهاب الى تلك المكتبة هروبا من اوجاع الناس التي نراها تنهق وتنحب في الشوارع ، وكانت تلك المكتبة بالنسبة لنا ملاذ هروب حقيقي من الجحيم الذي يقطر بجمره على الناس والبلاد بأسرها ، وبسبب الجوع الذي يحاصرنا كنت كثيرا ما اعلس اوراق اليوكالبتوس لأغيّر من مذاق فمي، اذكر مرة كنّا بطريقنا الى جريدة الجمهورية عندما اقترح عليّ القروي ازالة الغبار الذي يغطي وجهي بأوراق شجرة قريبة بعد دعكها ولم اتردد من تنفيذ الفكرة لكن القروي انفجر بالضحك ولما طلبت منه توضيح الأمر اخبرني ان وجهي اصطبغ باللون الأسود حيث كانت اوراق الشجرة ملوثة بدخان عوادم السيارات .. فأي تلوث بيئي كان يتربص بالناس داخل العاصمة دون علمهم..
 اخيرا اقترح علينا الغجري العودة الى الفندق من جديد .. لكي نقتل ساعة من الوقت في صالته المزدحمة بالأدباء حتى تبدأ قراءات الجلسة الشعرية في مسرح الرشيد، الغريب ان الوشق تحمس الى الفكرة والسبب ان اشاعة سرت بين جمع المثقفين مفادها وجود سركون بولص وسعدي يوسف ايضا وحتى مظفر النواب في بغداد ، ووصلت الأنباء انهم سيقرؤون قصائدهم في الجلسة الشعرية لصباح هذا اليوم، والواقع ان مثل هذه الإشاعات كان يروّج لها بعض الموظفين في وزارة الثقافة والإعلام وبتوجيه مباشر من وزير الثقافة وربما من جهات عليا كانت تصل تلك التوجيهات الى صالة فندق المنصور ميليا، وهي محاولة لا تخلو من الذكاء لجذب الجمهور الى داخل قاعة الشعر، ذلك الجمهور الذي كان معظمه من منتسبي الوزارة ، وهذه الظاهرة القسرية بحضور الجمهور وصلت اسرارها الى الشعراء الضيوف الذين فضّل الكثير منهم البقاء في غرفهم يحتسون الخمرة مع ثلة الشعراء الصعاليك بدلا من الحضور الى قاعة الشعر، وقد لعب الشاعر الغجري دورا بارزا بكشف الاعيب وخدع الوزارة وكان يتجول بين الشعراء العرب..ويردد دون انقطاع : 
- اي جمهور شعر هذا ؟ كله من موظفات الوزارة ؟!
وكان يعرّض حياته الى خطر فادح، ينجو منه باعجوبة في كل مرّة تحت ذريعة انه كان ثملا ولا يعي مايقول ..! بينما كان الوشق يتحدث بلوعة للأدباء الضيوف عن بطش السلطة في البلاد وكنت اعزز حديثه حين اصف لهم المجازر الدموية للمعارك والإعدامات العشوائية للجنود المتسربين من المعركة وكان الضيوف يلوذون بصمت مرير كأن على رؤوسهم الطير ، اما القروي فكان هندامه البائس وحزنه المستديم يفضحان بجلاء الحرمان الذي يعيشه الشعراء الصعاليك ، واصبحنا نلتقي كل يوم نحن الأربعة في حانة رطبة مطلة على ساحة النصر.. وصار الوسط الثقافي يطلق علينا مربّع الصعلكة .


7
انشودة حربية

فغرت فمي دهشة .. اذ ليس من المعقول ان نصدق هذه الخدعة الكسيحة بوجود بعض الشعراء الأفذاذ في هذا المربد ممن غادروا البلاد قبل اكثر من ثلاثين فجيعة ومليون نخلة !! من يصدّق ان حكاية مثل هذه تنطلي على دهاء الوشق البري .. قلت له مستاءً :
- هل صدقّت ان صديقك سعدي يوسف هنا.. ؟؟ انها اشاعات .. 
قاطعني بشتيمة من العيار الخفيف:
- اعرف يا احمق ‍‍‍‍!! .. لكن لديّ رغبة شديدة بكتابة رسالة اليه يحملها احد الشعراء الشيوعيين العرب..
هنا سأله القروي بفضول:
- من يكون هذا الشاعر العربي الشيوعي الذي لا اعرفه ؟
 لم يرد الوشق على السؤال وتركنا مبتعدا لإستطلاع الحوانيت القريبة من حديقة الأمة ثم امرنا:
- هيا اشطفوا وجوهكم ..
واشار الى مطعم قريب كانت تلعلع منه انشودة " اللّه يخلّي الريّس ".. ما ان دنونا من واجهة المطعم الدبقة حتى اطلق الوشق مقترحا نارياً بوجه صاحب المطعم جعلنا نتخشّب في مكاننا.. قال ابونا الوشق البري كلماته بثقة مفرطة ودهشنا لجرأته :
- ضع شريط القرآن بدلاً من هذا الزعيق الذي يقطع عنك الرزق !!
صعق صاحب المطعم لصراحة الكلام الذي نزل على مسامعه كخفقان السيف.. ولولا هيئة الوشق المبعثرة لظنه مخبرا جاء لخداعه..تلفت الرجل الطاعن بالهلع يمينا ويسارا وتفحّص على عجل ملامحنا ..ثم اطلق زفرة متقطعة وتعوّذ من الشيطان ..ولما ايقن ان صاحبنا من اهل الله.. همس والرعب مازال يكبل لسانه : 
- انهم يجبرون اصحاب الحوانيت على اذاعة هذه المصائب منذ الفجر .
وكان يعني بذلك الأناشيد الوطنية..فما كان من الوشق الا الضحك بفم مزموم حتى لا يكتشف الغرباء مأساة الناب الوحيد في فمه .. وأحسّ بالإنتشاء فلقد تمكن من جرجرة صاحب المطعم الى المنطقة المحببة اليه الا وهي السخرية من السلطة ..كلما وجد الفرصة متاحة الى ذلك .. ولذا لم يتردد من مشاطرة الإنشودة بالكلمات الهازئة .. فراح يردد جذلا :
- اللّه يقصّر عمره ..
 والأنشودة تنبعث من بطن آلة التسجيل بصوت كردوس المطربين صائحة :
- " اللّه يخلي الريّس " ..
 والوشق البري يجيبهم بالنيابة عن كل الشعب العراقي :
- اللّه يقصّر عمره ..
 نهرنا صاحب المطعم بخشونة وأمرنا بالإبتعاد عن واجهة المطعم وهو يلعن هذا الصباح الشتوي النحس الذي جاء بنا الى مطعمه الشعبي المزدحم بصور الرئيس والمعلقة قسرا على الجدران ..واصلنا الإنطلاق صوب جسر الجمهورية وهناك رأينا الحركة متوترة يشوبها القلق والرعب وقد انتشر الجنود بالزي الزيتوني الأنيق على طول الجسر وضفة النهر من الجهة الأخرى.. الغجري اللعين شمّ رائحة الخطر وقرر الرجوع ..قبل ان يهرع الينا فتى زيتوني بوجه املط والشرر يتطاير من عينيه الصفراوين وارتعدت مفاصلنا وتسمرنا من الخوف بينما بدأت تجلد ارتباكنا سياط اسئلته الباطشة والتي تنطلق من فمه بلهجة معروفة لدينا ويتداولها اقرباء الرئيس عادة :
- من انتم ؟ وكيف تجرأتم وعبرتم الجسر؟ هوياتكم ؟
ونادى رفيقاً له:
- تعال شم رائحتهم المتخمّرة..
 وكاد احدهم ان يصفعني لولا قصيدة القروي الذي استلها من جيبه الخلفي والمنشورة في جريدة الثورة قبل ايام .. وهو يهمس برقة للفتى الزيتوني:
- صدّقني نحن شعراء.
ترك الجريدة تستقر بين يدي احدهم ..وسأله الأملط بخشونة واحتقار:
- اين هي قصيدتك ؟ واين اسمك ؟
وبجسد يرتعد ويد مرتعشة ساهمت نسمات دجلة الباردة بزيادة ارتجافها ..نشر القروي الجريدة امام انظار الجندي الأشقر ..فعلق هذا هازئا وهو يقرأ عنوان القصيدة:
- زفاف ..
ثم قلص فمه واردف ساخرا كما لو انه يشتم القروي بل يجرح كرامتنا جميعا :
- هل كتبت هذه القصيدة عن عرس امك ؟
لم نجد امامنا سوى الضحك ايضا بقلب واجف .. حرصا على انفاسنا من الضياع.. وتمكن القروي اخيرا من اقناع  صبي القصر الجمهوري اننا اناس مساكين ولا تنطبق علينا مواصفات اولئك الذين يسعون لإغتيال الرئيس والذي عرفنا فيما بعد انه داخل قاعة الرشيد وقد حضر لتقليد اوسمة جائزة كانت تحمل اسمه لبعض الشعراء العراقيين والعرب . اخيرا اطلق سراحنا الذئب المدرب على الإبادة السريعة بأعجوبة بعد ان امرنا بالرجوع الى الباب الشرقي عدوا ًوربما كانت تلك المرة الوحيدة التي ارى بها الوشق البري مهرولاً امامي والحق ان خطواته الرشيقة اكدت بأنه كان في شبابه حارس مرمى لكرة القدم في كركوك .. نحن الآن في شارع السعدون واللهاث المر يسيطر على انفاسنا .. فتح الوشق فمه وبان نابه الوحيد كحبة لوز في كهف مظلم واطلق ضحكته ثم قال فرحا:
- لقد نجونا .. كادوا يعدمونا على الجسر..
لم نكن نعرف ان الرئيس داخل قاعة مسرح الرشيد يوزع جوائزه على الشعراء .. ضحك الوشق مرة اخرى وقال بينما الرذاذ يتطاير من فمه :
- ما ادرانا ان العار هناك في القاعة .. يوزّع "الرشمات" على الشعراء.
-----------------------------------------------------------------------
جزء من رواية "حياة باسلة" للكاتب العراقي حسن النواب، صدرت عن دار العين للنشر في القاهرة



التعليق بقلم نوارة الأحرش